أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سيد القمنى - الدين الرسمي والإسلام الأصلي















المزيد.....


الدين الرسمي والإسلام الأصلي


سيد القمنى

الحوار المتمدن-العدد: 3059 - 2010 / 7 / 10 - 00:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها ولا يبالي من أي وعاء خرجت
النبي محمد (ص)

بين المواد الأولى الصدر في الدستور المصري تقف مادة شديدة الأهمية وشديدة الخطورة والأثر في آن ، نعلن : أن الدين الرسمي للدولة هو الدين الإسلامي ، وتقفوها مادة داعمة مؤكدة تقول : إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع . وأن يعلن دستور الدولة ديناً بالعين و بالذات دينا رسمياً ، فهو ما يعني علم ولاة الأمر منا أن في الوطن أدياناً أخرى غير الإسلام يدين بها المواطنون ، لكنها أدياناً غير معترف بها لأنها ببساطة غير رسمية . وهو ما يعني أن في البلاد أدياناً منبوذة ، كما يعني أيضاً أن دستور الوطن يفرق ويميز ويصنف أبناء الوطن حسب اعتقاداتهم وليس حسب ولائهم الوطني . ويجعل من الدولة ولية على الإسلام الصحيح . ويصبح من لايدين بدين الدولة خارجا عليها ،وهو مايشكل جريمة فى حق الدولة .
ولا تقف خطورة هذه المادة الدستورية عند حد إعلان الطائفية الرسمية العلنية في عالم وفي زمن أصبح يعتبر ذلك اعتداء على حقوق الناس الشخصية جداً وتماماً ، ولوناً من التخلف في الميدان الحقوقي الذي تقاس به حضارات الأمم ، ووصاية بغيضة ضاغطة على أرواح الناس، إنما يتعداها إلى التطبيق العملي لهذا النبذ عند الحاجة في الصراع الفكري أو الاختلاف في الرأي والقول ، أو عند أي لون من ألوان الحراك الاجتماعي ، مما يعني أن هذه المواد تصادر مقدماً حق الاعتقاد وحق القول والرأي معاً .

وأقرب مثال إلى الذاكرة ما حدث للدكتور نصر أبو زيد الذي صدر بشأنه حكم يفرقه عن زوجته لغاية أسوأ من الوسيلة ، وهي إثبات ردته عن الإسلام بحكم قانوني رسمي بوثيقة مدموغة بخاتم الدولة الرسمي . ولا ننسى أبداً أن القاضي قد أقام حيثيات حكمة على بنود وأصول وثوابت وآيات قرآنية وأحاديث نبوية وآراء فقهية إسلامية مع تفسيره الخاص لهذه البنود التي لا علاقة لها بالقانون المعمول به في محاكمنا المدنية أو المفترض أنها كذلك . معلناً أنه يملك الحق في إقصاء القانون المدني واللجوء إلى ما احتسبه قوانين إسلامية ، وأن هذا الحق قد أعطته له مواد الدستور الإسلامية . قد كان لكاتب هذه السطور شرف الرد الفقهي العقدي الإسلامي بدوره على حيثيات الإدانة في دراسة مطولة موثقة ، بناء على طلب مكتب محامية الدكتور نصر الأستاذة منى ذو الفقار . ورغم أنه قد تم إيقاف تنفيذ الحكم بحكم جديد ، فإن الحكم ذاته لم يلحقه الإلغاء وظل سابقة قانونية قائمة باقية بوجه أي خلاف في الرأي داخل الإسلام ذاته، وصالحة للاستخدام إزاء حالات مشابهة مستجدة . وهو ما يعني أنه في ميدان العقيدة تقف الدولة حامياً وراعياً ومعبراً عن دين واحد من بين ما يعتقد الرعية ، وأنها تعلن انحيازها السافر العلني لهذا الدين في دستورها . وهو انحياز طائفي يفرز نفسه بعد ذلك في سياسات ومواقف مؤسسات الدولة من مواطنيها . ويستبطن هذا الإعلان عدم مساواة بين الرعية في الحقوق ستترتب بالضرورة على التصنيف بين الرسمي وغير الرسمي ، ومع عدم عدالة في ترك كل دين يعمل ويظهر بقواه الذاتية . وفي البداية والنهاية فإن هذه المواد الدستورية تنفي علناً من المواطنة مواطنين لا يدينون بدين الدولة الرسمي وتخلع عنهم رعايتها وخروجهم من دستورها بما يترتب على ذلك من حقوق . والملحظ الهام هنا أن جميع الدول العربية تضع هذه المادة في صدر دساتيرها فيما عدا لبنان ، وبالطبع السعودية لأنها بلد بلا دستور أصلاً كذلك ليبيا لأنها جماهيرية لا دستورية .
ورغم الدقة المتناهية المفترضة في الدساتير بحيث تكون تعريفاتها ومفاهيمها مانعة جامعة تامة، فإن دستورياً وكذلك الدساتير المشابهة تنص على أن (الإسلام) هو الدين الرسمي ، دون تحديد أي إسلام بالضبط هو المقصود . كما لو كان الأمر يعني إسلاماً واحداً معلوماً لدى الجميع ، أو قل إن التحديد متروك للموقف المذهبى للدولة الذي لا يعترف بغير الإسلام السني بالذات ، كنتيجة لتصور وجود إسلام واحد تكفي الإشارة إليه ، هو وحده الصحيح عند ظهور أي اختلافات أو ألوان أخرى للإسلام ، إسلام واحد وحيد أحد هوا لصح المطلق تكفي الإشارة إليه بكلمة الإسلام . وهو بدوره ما يستبطن طائفية من لون آخر ، طائفية داخلية ، تستبعد أي إسلام آخر غير رسمي ، طائفية أنكى وأمر تنفي عن المواطن مواطنته إذا دان بغير إسلام الدولة ، وهو ما وجد صداه في المطاردة الأمنية للشيعة المصريين واعتقالهم في أكثر من مناسبة ، ناهيك عن تجريم ألوان أخرى كالبهائية أو القاديانية وإنكار إسلامها عليها رغم اعتقاد أصحابها أنهم على إيمان سليم ، وبينهم يمكنك أن تجد الحجة ونقيضها ، لأن الأمر في النهاية هو اختلاف في الفهم والتفسير لأن النصوص لا تنطبق بذاتها بل تحتاج لمن يفهمها ويطبقها من البشر ، وهنا لابد أن يظهر الخلاف ، وهو الأمر الطبيعي السهل البسيط المفهوم ، لكن مع مواد الدستور يصبح أي خلاف هو جريمة . ثم يعني في مقام آخر احتمال أكيد بفساد أي أحكام تصدر على أساس ديني ، ولا يبقي حسم أي دون آخر سوى لمن بيده سلطة القرار ، حيث يصعب التأكد واليقين أن رأياً أو فهماً أو حكماً بعينه قد أصاب كبد الحقيقة أو أنه حقق مراد الله من نصوصه أو أنه اطلع وحده دون الناس على المقصد الإلهي .
والأمثلة على استخدام هذه المادة سلاحاً مرجعياً بيد البعض دون البعض كثيرة ، فقد كانت حجة في محاكمة كاتب هذه السطور على واحد من مؤلفاته في محاكمة مشهودة ، حاز فيها البراءة مما نسبه إليه المجمع الأزهري فقط بما أدلى من رأي وفهم وتفسير وشروح دينية تخالف ما ذهب إليه المجمع ، وفقط لأن حجته كانت أكثر إقناعاً وأعلى كعباً من حجج سادة المجمع وسدنته . وتفصح هذه المادة الدستورية عن قدرتها على تفعيل نفسها في مظالم فادحة في محاكمات أخرى تمر بكل ظلمها دون التفات أو اهتمام ، في القضايا التي يكون أحد الطرفين مسلماً والآخر غير ذلك خاصة في قضايا الأحوال الشخصية ، يتم فيها هدم القانون المدني لصالح مواد الدستور الصدر وهدر حقوق المواطنين لصالح الدين الرسمي .

انظر مثلاً الشيخ محمد حبش عضو لجنة الإفتاء يفتي بتاريخ 30 / 3 / 99 في صحيفة عقيدتي قائلاً : "إن الأولاد يتبعون خير الأبوين كما هو مقرر شرعاً ، فإذا كانت الزوجة مسلمة ولا تعرف شيئاً عن زوجها ، وظهر أنه بهائي كان الأولاد تابعين لأمهم" وعملياً قيل في أحد الأحكام أن المسلم هو الشخص الشريف وغير المسلم يفتقر إلى الشرف ، وذلك في إنهاء حضانة أم قبطية لابنها عندما أسلم زوجها . وفي أحكام أخرى ألغيت وصاية أب قبطي على ولديه عندما أسلمت الأم وجاء في قول المحكمة : "بتعين أن يتبع الأولاد الدين الأصلح والإسلام هو أصلح الأديان" (أنظر نماذج لتلك القضايا 2473/53 السيدة زينب و17/61 استئناف إسكندرية و 462/58 محكمة الإسكندرية الابتدائية).

هذه فقط أمثلة سريعة لا نقصد الحصر توضح كيف وضعت مواد الدستور الإسلامية أسساً تشريعية لمعاناة مواطنين مصريين فقط بسبب عقائدهم . ولا شك أن مواد تؤسس للنظام الطائفي وتكرسه ، تجعل هذا النظام عاجزاً تماماً عن مواجهة الفساد على كل المستويات ، لأنه إذا كان الفساد السياسي أو الإداري هو عملية تحويل العام لصالح الخاص ، فإن الطائفية بهذا المنظور تصبح المؤسسة الأم للفساد وتشريعه ، لأن النظام عندما يكون طائفياً يمكنه إيجاد كل المبررات الممكنة للفساد ، لذلك لا يحرص على تأكيد الطائفية والإصرار عليها سوى المستفيد من الفساد . هذا ناهيك عن تعارض بنود الدستور الإسلامية مع مواد أخرى بالدستور تؤكد على المساواة في الحقوق بين المواطنين بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة ، وهو تناقض منكور مستنكر يهز القيمة العليا للدستور وينقص منها. هذا إضافة إلى تناقض هذه المواد الدستورية الإسلامية مع ما تعهدت به مصر الدولة ووقعت عليه في ميثاق شرف أمام العالمين ، أقصد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي ينص في مادته الثانية على "أن تتعهد كل دولة طرف في هذا العقد باحترام الحقوق المعترف بها فيه ، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها ، دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي ، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب. وتتعهد كل دولة في هذا العهد إذا كانت تدابيرها التشريعية أو غير التشريعية القائمة لا تكفل فعلاً إعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد ، بأن تتخذ طبقاً لإجراءاتها الدستورية ولأحكام هذا العهد ما يكون ضرورياً لهذه الأعمال من تدابير تشريعية أو غير تشريعية .
هذا بالطبع إضافة إلى تناقض المواد الإسلامية بالدستور مع الشائعة التي تعلنها الدولة عن كونها دولة مؤسسات ديمقراطية ، لأن أساس المبدأ الديمقراطي هو المساواة التامة بين المواطنين فما بالك بحق المواطنة . والمضحك المبكي هنا أن تحوز إسرائيل شرف اعترافنا بدولتها والتطبيع معها بينما ملايين المواطنين المصريين تقف هذه المادة دون الاعتراف بهم مواطنين على سواء مع بقية المواطنين ، وتحول دون التطبيع بين عناصر المجتمع وبعضه .

وعلى مستوى الخلاف السياسي أو الفكري فإن هذه المواد ترفع في وجه المخالف كحجة تشكك في ولاء الخصم للوطن كنتيجة لعدم ولائه للدستور ، انظر معي مثلاً الأستاذ فهمي هويدي في كتابه (المفترون) الذي كرسه للرد على من احتسبهم علمانيين ، قد استخدم هذه الحجة في هذا الكتاب وحده ست مرات حسبما أحصيتها ، نموذجاً لها ما جاء ص 31 قوله : "إنهم يدافعون عن أحكام الدستور والقانون التي تنص على كفالة حرية الاعتقاد والتفكير وهو موقف نقدره ونحترمه ، لكننا نذكرهم بأن هناك مقومات أساسية للمجتمع ونظاماً عاماً مقرراً في الدستور يثبت بجلاء أن للدولة ديناً رسمياً هو الإسلام . ومن ثم فإن كل ممارسة يجب أن تحترم دين الدولة احتراماً للنظام العام للمجتمع".

وعليه يقول في ص 272 : "ما إذا كان لكل نظام أساسه الذي ارتضته الأمة وأثبتته في دستورها فمن حق النظام أن يمنع هدم ذلك الأساس .. إن كل تيار سياسي يحترم عقيدة الأمة ويلتزم بنصوص الدستور المعبرة ،.. أما أهل التطرف العلماني المخاصمون للدين فلا مكان لهم في إطار الشريعة ، إذ أنهم لا يهددون عقيدة المسلمين وحدهم لكنهم يهددون الإيمان ذاته" .. ثم يتمادى إلى تخوين مسلمين دينياً ووطنياً عندما يقول ص 115 : "عندما يكون الوطن جريحاً والأمة مهزومة فإن تشتيت الجهد في الصراعات الداخلية الفكرية أو العرقية أو الطائفية لا يمكن أن يوصف إلا بأنه خيانة للأمة وجناية على الوطن والأمة" .. أن الأستاذ فهمي يعيدنا مرة أخرى إلى زمن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" !! ثم لا يمل من استخدام هذا المبدأ الدستوري كحجة دامغة ضد أي مختلف داحضاً مخوناً مكرراً في صفحات 66 و71 و 108 و 272 .. إلخ .
ورغم أن كاتب هذه السطور يعلن بالفم المليان وكله شرف أنه علماني حتى النخاع ، فإنه لم يرتكب مرة تخوين من خالفه الرأي ، لأن ذلك ليس من شرف العلمانية ، وبحسبان علمانيته كان شديد الحذر في كل ما يتعلق بالوطن والناس فلم يشارك مرة في مؤتمر مشبوه ولا تعامل مع أي مواطن عليه علامات استفهام ، فإن الأستاذ فهمي هويدي بعد انكشاف الدور الأمريكي في تسخين الحالة الإسلامية ، يقول لنا فيما يبدو معتذراً أو خجلاً : "إن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد مولت في عام 1987 وحده أكثر من 120 ندوة علمية عن الصحوة الإسلامية .. وقد أثار ذلك لي مشكلة شخصية ، لأني شاركت في أكثر من 15 ندوة تحت ذلك العنوان ، وكانت لي في بعضها أبحاث لا أعرف إلى أين تسربت ولآي هدف وظفت ؟" ..!! ورغم ما يبدو هنا من تورط واعتراف ، فإن الأستاذ فهمي يكيل السخائم دوماً على كل مخالف ليضعه تحت لافتة العلمانية التي يبدو أنه يكن لها كراهية ومقتاً عظيماً ، بالتخوين الوطني والتكفير الديني.
مرة أخرى نعود نسأل: أي إسلام تقصده مواد الدستور ، أو كل من ينادي بعودة الإسلام الأصلي ؟ هل هناك إسلام أصلي ؟ يجب علينا العودة إليه بعد طول بعاد بحسبانه الكمال التام المطلوب لخلاص الأمة والعباد؟
سيجيبنا هنا أحد البارزين بتنظيم القاعدة (أبو حفص الموريتاني) ليؤكد لنا أن هذا الإسلام الأوحد الصحيح الأصلي موجود بل ومطبق أسلم تطبيق في نظام طالبان الإسلامي الأفغاني المخلوع (الجزيرة في 30 / 11 / 2001) ، هذا بينما يرى الدكتور عبد الله التركي أمين عام رابطة العالم الإسلامي أن الإسلام الحقيقي الأصلي موجود ومطبق في النظام السعودي (الجزيرة في 25 / 11 / 2001) . ورجال الأزهر عادة ما يقومون بمهمة تقديم الإسلام الصحيح في مواجهة إسلام المتطرفين ، وجميع الدول العربية والإسلامية تعلن أنظمتها الحاكمة بكل ثقة إن إسلامها الرسمي الدستوري الصحيح الأصلي هو المطبق فعلاً بعد قول . ورغم ذلك فما أبعد المسافات بين الإسلامات في هذه الدول والأنظمة ، وما أبعد القول المعلن عن الواقع السافر .. مما يشير إلى خلل أصيل في حكاية الدين الرسمي والإسلام الأصلي ، ويطرح السؤال نفسه : هل ثمة ما يمكن تسميته إسلاماً صحيحاً مطلقاً أصلياً ؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا إذن كل هذا الاختلاف والتناقض ؟
يبدو لنا أن الحديث عن إسلام حقيقي أصلي إنما يندرج ضمن خطابنا المخادع المخاتل الكاذب حتى على الذات ، لأنه لو كان هناك إسلام واحد تتطابق كل العقول في فهمه على التوازي والتجاور والتطابق ، ما أفرز هذا الإسلام ذاته فرقاً وشيعاً وطوائف كل منها ترى نفسها الإسلام الصحيح وتنبذ ما عداها من فرق وتكفرها وترفضها بوصفها بدعة وضلالة ، وتحتسب ذاتها الفرقة الوحيدة الناجية دون سواها ، الناطقة باسم الإسلام الصحيح الأصلي لذلك هي المؤتمنة على الرسالة والحقيقة والحارسة لهما ، ومن ثم تطالب الناس باتباعها لأنها تضمن لهم الخلاص الصادق .
حتى على مستوى المفكرين الإسلاميين نجد ذات النغمة المخادعة ، فهذا الأستاذ هويدي في كتابه المذكور أنفاً ، يأتي بقول الأستاذ محمود العالم : "إن الأسلمة لا تعني أن يصبح النص الديني من قرآن وحديث مرجعاً وحيداً بذاته للسلطة والمجتمع والعلم . إذ لا سبيل إلى ذلك ، إنما يتحقق ذلك بالضرورة بقراءة النص وتفهمه وتفسيره وتطبيقه وفق هذه القراءة ، وهكذا تصبح القراءة الخاصة لدعاة الحركة الإسلامية هي المرجع الذي يحتكر تطبيق الإسلام" . وبدلا من أن يتفق الأستاذ هويدي مع هذا الكلام البسيط الواضح ، فإنه لا يقبل إي اختلاف مع لوحته الخلفية عن الإسلام الحقيقي الأصلي ، فيرد قائلاً : "أيهما أقرب إلى الصواب : أن نحاكم الإسلام بممارسات المنسوبين إليه فندمغه وندينه ثم نستعيده ، أو أن نحاسب هؤلاء بقيم الإسلام وتعاليمه" ، وإذا سألناه عن هذا الإسلام المقياس المعياري الذي سنحاسب به الفهم المغلوط كفهم المتطرفين ، فإنه يرد بأنه "الموقف الصحيح والفهم الصحيح للإسلام والمصدر الأساسي الذي يرجع إليه في تحديد موقف الإسلام هو القرآن والسنة النبوية الصحيحة / ص 91 / المفترون" .. لا تجد بين يديك شيئاً بعد أن شرح الماء بالماء ، فلا أحد يختلف على مصادر الدين المدونة ، والمصادر شيء ، وتعدد الأفهام حولها شيء آخر لا يعترف به الأستاذ فهمي . مع الأخذ في الحسبان أن مسألة العثور على الاتفاق بين المسلمين حول السنة النبوية الصحيحة مسألة دونها خرق القتاد ، بل إن القرآن نفسه محل تفسيرات خلافية حادة ، لأن النص لا يفعل بذاته إنما يخضع لقراءة عقول مختلفة ومفاهيم متباعدة بحسب الأوضاع الاجتماعية للقارئين ، واختلاف البيئات والفروق الزمنية والمعرفية فكل واحد يفهم النص بحسب مصالحه ورغباته ومطامعه والأيولوجيا التي ينتمي إليها ،و تاريخينا يحدثنا عن الاختلاف حول القرآن ونصوصه بعدد المدارس الكلامية من معتزلة إلى أشاعرة إلى ما تريديه إلى مجسمة إلى مشبهة إلى منزهة إلى معطلة إلى مرجئة إلى صفائية ، كما اختلفت المذاهب في القراءة والفهم والتفسير والتطبيق والتأويل باختلاف المذاهب الفقهية ، وفي الفقة تجد مناهج تتباعد ما بين الرأي والاجتهاد والنص والسمع والإجماع والاستحسان والاستصحاب ، بل هناك إسلامات معلنة لها اتباع كثر ، تتباعد رؤيتها وفهمها لدرجة النقيض إزاء النص الواحد ، فهناك السني والإثنى عشر والإسماعيلي والأباضي والأزيدي والزيدى، وهناك إسلام العوام وإسلام الخواص وإسلام الفقيه وإسلام الفيلسوف ، مما يعنى أن لا وجود لإسلام واحد حقيقي أصلي يمكن اعتباره إسلام الدولة الرسمي ، إلا في النص المكتوب في شكل أحرف وحبر وورق ولون ، أما عدا ذلك فمختلف باختلاف الأفهام لأنه لا يفهم بذاته بل بالقارئ ، بالإنسان ، لذلك ستجد حتى على مستوى الأفراد أن لكل واحد إسلاماً يختلف عن الآخر قليلاً أو كثيراً ، بل أنك يمكن أن تجد عند الفرد الواحد أكثر من إسلام حسب الظروف والمواقف التي ينتقل فيها من النقيض إلى النقيض ليقوم بتشغيل الإسلام لصالحه لنكتشف إنه يؤمن بإسلامين أو أكثر حسب الأوضاع المطلوب فيها انتهاز الدين وتخديمه للمصلحة والمنفعة ، أو لحسم خلاف أو سجال . ويمثل الأستاذ هويدي في كتابه المذكور أكثر من إسلام يصل كل منها إلى حد مناقضة الآخر ، ومثال واحد لذلك عندما وقف الأستاذ موقفاً يستدعي منه إبراز الاستنارة والاعتدال ، فرأي الإسلام الحقيقي لا يعرف أكليروساً ولا مشايخ ولا وساطة بين العبد والرب ، بل رأى أن الإسلام الحقيقي هو في هدم سلطة رجال الدين ، وذلك في قوله : "لقد كان محمد عبده أصدق تعبير عن حقيقية الإسلام حين أعتبر قلب السلطة الدينية هو أصل من أصول الإسلام .. ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا .. سيطرة على إيمانه / ص 93" . لكن الأستاذ هويدي ينسى ما قال في موقف سجالي آخر وقف يدافع فيه عن سلطة رجال الدين ضد العلمانيين الذين يستهدفون حسب قوله : "ألا يعلو للإسلام صوت ولا تبقى لرموزه ورجاله هيبة أو كرامة .. وإن مقام أهل العلم واجب التوقير لأن العلماء هم ورثة الأنبياء / ص 60" ، وهكذا تجد إسلامين ، إسلاماً لا يعرف سلطة دينية ، وإسلاماً لا يعترف فقط بالسلطة الدينية بل يعتبر رجالها رموزاً للإسلام لأنهم ورثة الأنبياء" (؟!) .
وإعمالاً لكل هذا فإن حكاية الدين الرسمي والإسلام الأصلي هي من قبيل ا لخداع والتوهم ، خداع الآخر وخداع الذات وخداع المسلمين أنفسهم الذين هم مادة الإسلام الأصلية حقاً وصدقاً . وإن الضرر الناجم عن استمرار الخداع والتوهم فادح على الوطن وعلى الناس وعلى المسلمين أنفسهم ، لأنها تفرز موقفاً اصطفائياً عنصرياً طائفياً ، وعلى المستوى المعرفي لا تعبر إلا عن خداع معرفي نهايته نفي المختلف بالاضطهاد الديني والإرهاب الفكري الديني . وهو أمر لا يحتاج إثباتاً فلدينا تاريخنا التليد ، وتاريخ عموم الشعوب ، وما امتلأ به من أنهار دم سالت في حروب دينية وفتن مذهبية ، حيث اعتقد كل فريق أن فهمه يتطابق مع حرفية النص ومراد الله صاحب النص ، وأنه هو من وضع يده على المعنى الأصلي والحقيقي للنص ، وصدق الإمام علي في قولته المعلومة "إن القرآن لا ينطق بلسان لكن ينطق به الرجال" معبراً عن كون النص أبداً لا يفهم ولا ينطق بذاته ، لذلك وبالضرورة لا بد أن تعدد حوله المفاهيم والمذاهب ، ولا يبقى ثمة نص واحد صاف أصلي إلا على مستوى الحروف والأحبار . وذات التاريخ يحيطنا بتفاصيل حول تمترس كل فريق وراء فهمه وليس وراء النصوص ، ليشن على المختلف حربه باسم النص .
وهكذا يظهر جلياً أن كل من يتحدث عن إسلام حقيقي صاف أصلي دستوري دولتي إنما هو يحل في الحقيقة محل النص ليصير هو الأصل . هذا ناهيك عن كون حكاية الإسلام الأصلي تجرد الإسلام من مزيته الخاصة بين الأديان التي عبرت عن ذاتها في جدل وتفاعل مع الواقع زمن الوحي ، والتي عبرت عنها ظاهرة النسخ في الوحي أبلغ تعبير . إضافة إلى تجريد الإسلام من ناسه وبشره الذين أسهموا تاريخياً في صناعته زمن الدعوة بفهمهم وانتصاراتهم ونكساتهم ورغباتهم وأسئلتهم وإجابات الوحي عليها وتفاعله معهم أخذاً ورداً . فالإسلام ليس مجرد وعاء نجد في داخله كل الحلول والإجابات التامة النهائية في كل شأن ، بقدر ما هو نسيج تاريخي يرتبط بحركة المجتمع والبشر في زمنه مما لم يجعله واحداً مصمتاً أحداً بالتكوين والنشأة ، بل ما حدث كان العكس تماماً ..
أن الأخطر في النهاية عندما يكون الدستور طائفياً والفكر مخادعاً مختالاً ، وعندما يتصور فريق أنه امتلك الحق وحده دون الناس بتكريس دستوري ، فإن ذلك لابد أن يعني فقط نفي المختلف ، يعني عنصرية طائفية ، يعني إصطفائية ، يعني قتل الآخر معنوياً بحسبانه غير موجودة ، وأحياناً قتله جسدياً كما تفعل فرق أخرى تنطلق من ذات الموقف ، لأنها تملك حقيقة الإسلام .
باختصار شديد أن حكاية الدين الرسمي والإسلام الأصلي هي المفرزة الواضحة لمنتج ينتهي بالإرهاب ، ويبقى تساؤل برئ : إذا كان المسلمون طوال تاريخهم حتى اليوم لم يتمكنوا من التطبيق الرسمي للإسلام الأصلي ، فهل ترانا نحن قادرون ؟



#سيد_القمنى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون روما وقانوننا
- لقد عادوا بنا للعصر الحجري
- الاستبداد بمساندة السماء
- اساتذة العلم فى بلادنا
- قمة السقيفة قراءة مخالفة
- تبسيط مفهوم القيم
- ما نشرتة مجلة الإذاعة والتلفزيون المصرية عن حوارها مع سيد ال ...
- ظاهرة التكفير في ميزان العقل و الدين
- زواج القاصرات
- اليوجينيا الوطنية
- كعبة سيناء
- الشيخ .... و الغوغاء ؟ !
- أبعاد ظاهرة الحجاب و النقاب ( 4 من 4 )
- أبعاد ظاهرة الحجاب و النقاب ( 3 من 4 )
- أبعاد ظاهرة الحجاب و النقاب2من4
- أبعاد ظاهرة الحجاب و النقاب( 1 من 4 )
- درس في البحث العلمي و أخلاقياته
- آلية الفتوى( تفكيك الخطاب )2 من 2
- رد وجيزعلى د. صالحة رحوتى وكل من هم فى زمرتها
- آلية الفتوى تفكيك الخطاب 1 من 2


المزيد.....




- نزلها عندك.. نزل تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على الأقما ...
- شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل ...
- سيدة بريطانية يهودية تفضح محاولات وسائل الإعلام والسياسيين ف ...
- تونس: قرض بقيمة 1.2 مليار دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية ...
- تونس تقترض 1.2 مليار دولار من -المؤسسة الدولية الإسلامية-
- مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية
- -لم توفر بيئة آمنة للطلاب اليهود-.. دعوى قضائية على جامعة كو ...
- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سيد القمنى - الدين الرسمي والإسلام الأصلي